الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة فيلم "اشكال" للمخرج التونسي يوسف الشابي في مهرجان كان: إعادة لا متناهية لاحتراق الذات

نشر في  28 ماي 2022  (14:31)

بقلم الناقد السينمائي طاهر الشيخاوي- مراسلنا من مهرجان كان

Il faudra désormais compter avec Youssef Chebbi !

من يعرف المخرج يوسف الشابي وتابع بداياته يمكنه أن يدرك أهمية شريط "اشكال" الذي عُرض في قسم "نصف شهر المخرجين" في اطار الدورة 75 لمهرجان "كان". أن يتم اختياره في هذا المهرجان السينمائي أمر محسوم بل يكون غير طبيعي لو لم يكن الأمر كذلك.

أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو الدرجة العالية من الرشد الذي يُميّز العمل. كأنما سبقته أعمال أخرى عديدة. صعب أن نتخيل أنه أول تجربة روائية طويلة لصاحبها. فمدى عمقه الفكري والسياسي لا يضاهيه إلا بعده الجمالي. أهم مقياس، في رأينا، لتقييم الأفلام هو مطابقة رهانات محتواها مع إختياراتها الشكلية، أي درجة تناغم الإخراج مع المضمون.

 "أشكال"، عنوان يحمله الفيلم بأناقة فائقة وصواب مذهل

لننطلق من المنطلقات: اختيار الفضاء (الكلمة ضعيفة) يكتسي أهمية قصوى لأنّ الحي الذي اختاره يوسف الشابي، "حدائق قرطاج"، ليس إطارا مكانيا فقط تدور فيه الأحداث، أي لا يعني فقط أنه أفضل مكان يمكن أن تدور فيه هذه الأحداث بل هو "الشخصية" الأساسية للفيلم. أحد الأحياء التي نشأت تحت نظام بن علي وتوّقفت أشغاله مع اندلاع الثورة ثم تواصلت أخيرا.

في هذا التوّقف ومواصلة الأشغال يكمن موطن الفيلم الأساسي. آثار حديثة كما جاء على لسان يوسف الشابي. الكلّ يعلم أهمية الآثار، آثار الحرب بالخصوص، في تحديث اللغة السينمائية وما مثّله ذلك على سبيل المثال في الواقعية الجديدة. لكن لا يكفي أن نقول هذا.

لننتبه إلى طريقة تصوير المكان، منذ انطلاق الشريط. لا تقتصر الكاميرا على تأطير المشهد لتُشكّل الصورةَ وانما هي تتحرك داخله، كأنّما تبحث عن شيء ما. هذه الحركة تحمل منظورَ الفيلم بأكمله، فيها تكمن المقاربة وترسم التمشي: الفيلم كلّه مساءلة، بحث في فضاء بُني وتوقف ثم أعيد بناؤه. أما ما يسكن الفضاء فهي صورة، شكلٌ، شخصٌ يحترق، أضرم النار في نفسه، شكلٌ لا يتوقف على إعادة انتاج نفسه. من هو ذا الذي يضرم النار في جسده وما هي دوافعه الحقيقية؟

Telle est la question-credo du film

من هنا كان لابد من اختيار البقية، بقية مكوّنات العمل. الشخصيات أوّلا : شرطيان، "بطل" (قديم جديد) شبح من أشباح النظام القديم في اخراج جديد ثم (وهنا يكمن أحد مراكز قوة الكتابة) شخصية فاطمة، شكل جديد، لا تنقطع على سَكن المكان وفي ذلك اكثر من دلالة وليست فقط جندرية مع أنها كذلك أيضا... الحديث يطول عن هذه الفتاة ووقع حركاتها في الفيلم. انغلاق وانفتاح، لغز لا يدلي بأسرار أعماقه، مسار في حدّ ذاتها، شخصية لا ينفك المشاهد يتساءل عما يختلج في نفسها.

ثم أشكال المعالجة السينمائية : كثيرة، طبقات من أشباح أفلام نعرف أهميتها في تاريخ السينما : يبدأ الشريط كما ينتهي "ألمانيا السنة الصفر" لروسيليني، يبدأ في الخراب والانتحار وينتهي بصور تذكرنا بمسلسلات تلفزية، مسلسلات جيّدة فنية معاصرة وفنيا راقية مرورا بأشياء أخرى يمكن تلّمسها ويكفي أن نقرأ بين الصور : "فرتيغو" لالفريد اتشكوك و"بلو آب" لميكال انجيلو انطونيوني وفريتز لانغ وغيرهم.

هنا يبلغ العمل قيمته، في قدرة يوسف الشابي على هذا المسح التاريخي، على اختياره لصُور تحمل في طياتها أشباح صور أخرى، لتواكب مساءلته لهذا الواقع، واقع ما بعد الثورة التي لم تنته منذ انطلاقها في اعادة لا متناهية وغريبة للاحتراق الذاتي، كطريق مفتوح، طريق مرهق، حيث الإجابة سؤال لإجابة لم تكتمل حتى تصبح سؤالا جديدا.

انخراط هذا الفيلم المتجذر في فضاء تونسي محدّد جدا، انخراطه في تاريخ سينمائي كوني يدل أكثر من أي دراسة سوسيولوجية وسياسية على الأبعاد الكونية لما يجري الآن في تونس من أحداث.

 Enfin… il faudra désormais compter avec Youssef Chebbi